أنا وكايا
كايا ثالث خادمة إندونيسية استقدمها خلال العشرة شهور الأخيرة بعد أن هربت الخادمتان السابقتان في غضون أيام معدودة من وصولهما بيتنا الصغير بأحد أحياء شمال جدة الراقية.
وقد أكملت كايا شهرها الأول في سلام راضية بأسرتي الصغيرة (زوجة واحدة وأبن 14 سنة وأبنه 12 سنة)، ناهيك عن أنني لم أكتفي بالراتب المنصوص عليه في العقد البالغ 800 ريال شهريا وإنما دفعت لها 1000 ريال راتب أول شهر، ومن جانبنا فقد رضيت عنها حرمنا العزيزة حيث أنها تجيد العربية بسبب عملها أربعة سنوات بالرياض في فترة سابقة من حياتها، وتفهم أصول الشغل بداية من النظافة إلى الطبخ إلى حسن ضيافة ومقابلة ضيوفنا سواء الحريم منهم أو الرجال، أما أهم ما كان يميزها من وجهه نظر زوجتي (والتي لم تبح بها لي وإنما استشعرتها من نفسي) أنها دميمة نحيفة عجفاء لا تشكل أي خطورة على رجال البيت.
وفي الليلة التي قامت فيها زوجتي بتقديم ملخص تقييمها لأداء كايا خلال شهرها الأول والذي أعقبه دعائها الحار بأن يهديها الله ويجعلها تستقر معنا، أخبرتني بأن كايا تود مناقشة أحد الأمور معي، فاستبشرت خيرا لأنه لو كان لديها سوء نية (كالهرب مثلا) لم تكن لتتناقش.
في صباح اليوم التالي اجتمعت أنا وزوجتي على مائدة المطبخ نستمع لكايا. في البداية أطرت كايا على طيبتنا وأدب أطفالنا وأنها لن تجد أحسن مننا تعمل عنده ولكن. حينها وقع قلبي في قدمي .... ماذا بعد "ولكن"، استطردت قائلة: ولكن الراتب ضعيف جدا. ولم تنتظر حتى لترى رد فعلنا على كلامها ولكن أكملت فورا قائلة: أطالب بزيادته إلى 1400 ريال شهريا.
ران صمت تام في أرجاء المطبخ إلى أن استوعبت المفاجأة ثم تمتمت: إن هذا يعتبر 75% زيادة عن سعر العقد.
فردت: سعر العقد مجحف، 1400 ريال هو الراتب الذي استطيع الحصول عليه فورا إذا هربت من عندك واشتغلت غير نظامياً عند أي عائلة أخرى ، أي أن هذا هو سعر السوق العادل لراتبي.
فقلت لها وقد بهرني فكرها الاقتصادي: ولكن يا كايا معنا أنت في أمان ووجودك في البلد سيكون نظامي وهذا له ثمن كبير.
فردت: ومن قال لك أنني لن أكون نظامية، هذه أمور سهلة يمكن التعامل معها ولا تشكل أي عامل من عوامل اتخاذ القرار.
فزمجرت زوجتي: هذا ظلم يا كايا، إذن لماذا تحملنا كل مصاريف استقدامك ومشاكل التعامل مع مكاتب الاستقدام والوسطاء والسماسرة في حين من البداية كان من الممكن أحضر شغالة غير نظامية وخلاص. تذكري يا كايا أننا من وفرنا لك تأشيرة القدوم للمملكة وسبّبنا الله لفتح باب رزق شريف لك، هل هكذا يكون جزائنا؟
فردت بابتسامة ماكرة: ماذا ستقولان لو أخبرتكما أن موافقتكما على زيادة راتبي ستكون أوفر لكما؟
ففغرت فاهي مشدوها مستغربا ومتسائلا.
فأكملت: من ناحية ستجعلني أبقى معكم وبالتالي ستوفر مصاريف وعناء استقدام الخادمة الرابعة، والاهم من ناحية أخرى أنك لن تتحمل أي تكاليف أضافية بخصوص استخراج أقامتي وكشف طبي وخلافه، بل لن أحملك أي رواتب أجازات أو مصاريف طيران كما ينص عليها العقد.
مازال فمي مفتوحا
فأكملت تحدثني شارحة خطتها: أنت ستبلغ عني هروب وتسلمهم جواز سفري فنضرب عصفورين بحجر تتجنب أي مساءلة وفي نفس الوقت توفر كل الرسوم الحكومية المطلوبة لمنحي وضع نظامي، وسأبقى عندكم إلى ما شاء الله ثلاث أو أربع أو خمس سنوات فإذا قررت العودة لبلدي أستخرج بكل سهولة ويسر جواز سفر بدل فاقد من سفارتنا ثم أسلم نفسي لإدارة الترحيل بالجوازات التي تتكفل بتسفيري لبلادي معززة مكرمة.
نظرت لزوجتي فوجدت عيناها تلمعان من فكرة استقرار كايا معنا لمدة خمس سنوات وأومأت لي برأسها راجية أن أوافق على خطتها، فألتفت لكايا مستسلماً محاولاً لمرة أخيرة إرضاءً ضميري الوطني: ولكن يا كايا وجودك معنا بهذا الوضع سيكون مسئولية علينا.
فضحكت مستهزئة من صراع بقايا الضمير الوطني في صدري: مئات الألوف من العمالة المنزلية الغير نظامية تعمل بالبيوت في طول البلاد وعرضها عند أبناء البلد وعند الوافدين فهل سمعت عن أي صاحب بيت تضرر من ذلك؟
لم أرد.
فاستطردت تطرق الحديد وهو ساخن: ثم ما هو المقابل الذي يعود عليك من هذه الرسوم؟ هل عوضتك الحكومة مصاريفك المهدرة عند هرب خادماتك السابقات؟ هل تقف الحكومة بجانب أي شخص يتعرض للتسويف أو المماطلة أو حتى النصب من قبل مكاتب الاستقدام؟ هل تساند الحكومة أي شخص يشرب مقلب وصول خادمة لم تري بوتاجاز في حياتها أو سائق لا يجيد قيادة أي شيء حتى لو حمار أو ممرضة منزلية لا تعرف الفرق بين جهاز قياس السكر وجهاز قياس الضغط بينما كانت المواصفات المذكورة في عقد الاستقدام تنص على استقدام خادمة عملت سابقا في القصر الملكي البريطاني وسائق سيارة يهوى قيادة الطائرات الشراعية بأوقات فراغه وممرضة شغلت منصب كبيرة طاقم غرفة عمليات القلب المفتوح بمستشفى هوبكنز بهيوستن؟
طأطأت رأسي وانكسرت عيني رافعاً راية الاستسلام، وأعلنت موافقتي على زيادة راتبها وتنفيذ خطتها، فقفزت زوجتي فرحا وطبعت على خدي قبلة كبيرة ثم ذهبت لكايا مهنئة فأشارت لها بالتريث لأنه مازال لديها تعقيب.
قالت لا فض فوها: يعتمد استمرار هذا الاتفاق على عامل واحد فقط هو رضا كل طرف عن الطرف الآخر، بمعنى رضاكم على حسن أدائي لمهامي بالطريقة التي ترغبونها، ورضاي على حسن معاملتكم لي وانتظامكم في سداد مستحقاتي الشهرية، فإذا قصرت في أداء مهامي من حقكم إنهاء الاتفاق وطردي، وإذا أسأتم معاملتي من حقي إنهاء الاتفاق والهرب.
اندفعت زوجتي نحوها لتحتضنها قائلة: كلام جميل ليس به عيب وتأكدي أنني سأعاملك مثل أخت.
فانشرحت أسارير كايا وقالت: لي طلب بسيط آخر، أول يوم جمعة من كل شهر استأذنكم في الذهاب لمكة الثامنة صباحا على أن أعود إليكم بحد أقصى الرابعة عصرا. وبدون انتظار سؤالنا عن السبب قالت: لأداء العمرة وكسب ثواب صلاة الجمعة بالحرم، وكذلك لتسليم راتبي الشهري لزوج أختي الذي يعمل في مكة، فيقوم بإرساله لسد حاجة عائلتي في قريتنا باندونيسيا.
بقايا الضمير الوطني مازال يحك صدري .... ونظرات زوجتي الراجية تكوي قلبي .... وصورة معاناتي مع الاستقدام ترعب مخيلتي ... ترى ماذا أنت بفاعل إذا كنت مكاني؟ ... لا أريد أن أسمع أجابتك .... ولكن أريدك أنت أن تسمع إجابة نفسك بصراحة وبدون خداع.
ملحوظة: الأحداث حقيقية ومضمون الحوار مطابق للواقع ولكن تم استبدال مفردات "العربية الجاوية" التي استخدمت في الحوار الفعلي بعربية صحيحة لسهولة الفهم.